أولًا:
الله سبحانه وتعالى منزَّه عن فعل القبائح كلها، والظلم والكذب من هذه القبائح. وهذا أمر ظاهر لا خفاء به، ولا خلاف فيه بين أهل الإيمان بالله جل جلاله، أصلا.
ومع تنزه الله تعالى عن الكذب والظلم، وتمام تعاليه عنه سبحانه، واستحالة "وقوع" شيء من ذلك منه، جل جلاله؛ فالله على كل شيء قدير، ولا يعجزه شيء سبحانه، لكن الله تعالى ترك فعل القبائح لأنه لا يريدها سبحانه، ولا يشاؤها من نفسه جل جلاله. وهو سبحانه من حرَّم الظلم على نفسه، لم يحرمه عليه أحد، ولا هو ممتنع عليه، سبحانه، لو أراده؛ بل هو على كل شيء قدير؛ وإنما امتنع وقوع ذلك منه؛ لأن هذا هو اللائق بالرب تعالى وصفاته، ولحكمته وصدقه وعدله وغناه وقوته، وسائر كمالاته سبحانه.
وهذا هو معنى قول أهل العلم: القبائح ممتنعة لغيرها في حق الله تعالى، فهم يريدون: أن فعلها داخل في قدرة الله واستطاعته، لكنه تعالى لا يفعل شيئًا منها قط، مختارًا لذلك مريدًا له، لأن فعلها قبيح غير لائق به تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قد دل الكتاب والسنة على أن الله تعالى: كتب على نفسه الرحمة، وكان حقًّا عليه نصر المؤمنين، وكان حقًّا عليه أن يجزي المطيعين، وأنه حرَّم الظلم على نفسه، فهو سبحانه الذي حرَّم بنفسه على نفسه الظلمَ، كما أنه هو الذي كتب بنفسه على نفسه الرحمةَ، لا يمكن أن يكون غيرُه محرِّمًا عليه أو موجِبًا عليه، فضلًا عن أن يُعلَم ذلك بعقلٍ أو غيره.
وإذا كان كذلك: فهذا الظلم الذي حرَّمه على نفسه؛ هو ظلم بلا ريب، وهو أمر ممكنٌ مقدورٌ عليه، وهو سبحانه يتركه، مع قدرته عليه، بمشيئته واختياره، لأنه عادلٌ ليس بظالمٍ، كما يترك عقوبة الأنبياء والمؤمنين، وكما يترك أن يُحَمِّل البريءُ ذنوبَ المعتدين"، انتهى من "مجموع الفتاوي" (18/ 156).
وقد بيَّن شيخ الإسلام وجه الدلالة على ذلك من نصوص الكتاب والسنة، فقال ما في "مجموع الفتاوي" (18/ 144):
"قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ، يبين أن هذا العقاب لم يكن ظلمًا؛ لاستحقاقهم ذلك، وأن الله لا يريد الظلم.
والأمر الذي لا يمكن القدرة عليه؛ لا يصلح أن يُمدح الممدوح بعدم إرادته، وإنما يكون المدح بترك الأفعال إذا كان الممدوح قادرًا عليها، فعُلم أن الله قادر على ما نزَّه نفسه عنه من الظلم، وأنه لا يفعله، وبذلك يصح قوله: (إني حرَّمت الظلم على نفسي)، وأن التحريم هو المنع، وهذا لا يجوز أن يكون فيما هو ممتنع لذاته، فلا يصلح أن يقال: حرَّمت على نفسي، أو منعت نفسي من خلق مثلي، أو جعْلِ المخلوقات خالقةً، ونحو ذلك من المحالات.
وأكثر ما يقال في تأويل ذلك ما يكون معناه: إني أخبرت عن نفسي بأن ما لا يكون مقدورًا؛ لا يكون مني!! وهذا المعنى مما يتيقن المؤمن أنه ليس مراد الرب، وأنه يجب تنزيه الله ورسوله عن إرادة مثل هذا المعنى الذي لا يليق الخطاب بمثله، إذ هو مع كونه شبه التكرير، وإيضاح الواضح، ليس فيه مدحٌ ولا ثناءٌ، ولا ما يستفيده المستمع.
فعُلم أن الذي حرَّمه على نفسه: هو أمر مقدور، لكنه لا يفعله لأنه حرَّمه على نفسه، وهو سبحانه منزه عن فعله، مقدس عنه"، انتهى.
ثانيًا:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الذي يدل عليه القرآن: أن كل من تكلم بلا علم فأخطا؛ فهو كاذب ... وكذلك الذي يدل عليه الشرع: أن كل من أخبر بخبر ليس له أن يخبر به، وهو غير مطابق، فإنه يسمى كاذبًا، وإن كان لم يتعمد الكذب"، انتهى مختصرًا، مع أمثلة متعددة مثَّل بها تنظر في "النبوات" (2/ 814).
فإذا تبيَّن ذلك، فالكذب في حق الله تبارك وتعالى مثل الظلم سواء، فإن الله تعالى قادر على أن يخبر بالأخبار غير المطابقة، لا يجبره أحد على كلام دون كلام، وهو تعالى قادر على أن يخلف الميعاد، وعلى أن لا يُتم كلماته صدقًا وعدلًا، لكنه تعالى لا يفعل ذلك، فيتركه الله سبحانه مع قدرته عليه، بمشيئته واختياره، لأنه لا أحدَ أصدقُ منه قيلا، ولا أحدَ أصدقُ منه حديثا، ولأن الكذب ومنه: خلف الوعد والخطأ في الإخبار؛ لا تليق بالغني القوي العليم الحكيم.
وقد أخبر الله تعالى بصدق حديثه، وصدق قوله، وإنجاز وعده، وأنه لا يخلف الميعاد، وكل ذلك كان على سبيل الثناء لنفسه تعالى.
كما قال الله تعالى: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وقال: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا.
وقال عن أهل الجنة: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ، وإنما يحمد الله تعالى على فعله الحسَن الجميل (الاختياري)، كما يذكر أهل العلم في تعريف الحمد، وقال الله تعالى: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، فالحمد لله رب العالمين.
وكل هذا من الثناء على الله تعالى والمدح له، إن شاء الله، مع الدلالة على أن الله تعالى يريده، وليس مجرد خبر محض، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكذلك حلفه (ليَفعلنَّ) كقوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وقوله: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. ومثل هذا القسَم؛ ليس خبرًا محضًا، بل فيه معنى الإرادة والعهد، كما في الوعد"، انتهى من "جامع المسائل" (1/ 153).
فهذا وما سبق ذكره في الظلم سواء، كلاهما فعل اختياري مما يفعله الله بإرادته، والمدح على فعل شيء إنما يصح إذا كان الفاعل قادرًا على الفعل والترك، وليس على فعل المجبور الذي لا اختيار له، نظير ما سبق ذكره في الترك، والله أعلم.
وقد جمع شيخ الإسلام بين امتناع (الكذب) و(الظلم) على الله تعالى، مع القدرة عليهما، في سياق واحد، فقال ما في "النبوات" (1/ 240): "... وأمّا خلق مثل تلك الخارقة على يد الكاذب، فهو ممكنٌ، والله سبحانه وتعالى قادر عليه، لكنه لا يفعله، لحكمته؛ كما أنّه سبحانه يمتنع عليه أن يكذب، أو يظلم".
وقال في "درء التعارض" (9/ 52) تعليقًا على كلام للكلوذاني: "هذه طريقة معروفة للقائلين بالتحسين والتقبيح العقليين، ويقولون إنهم يعلمون بتلك أن الله منزه عن أن يفعل القبيح، كالكذب، وتصديق الكاذب المدعي للنبوة بالمعجزة الدالة على صدقه، وإن كان ذلك ممكنًا مقدورًا له، لكن لا يفعله لقبحه وخروجه عن الحكمة"، انتهى.
فتبيَّن بذلك أن الكذب مثل الظلم، يتنزه الله عز وجل عنهما، فيتركهما بمشيئته واختياره، وإن كان قادرا عليهما، وبذلك يصدق الثناء عليه تعالى بتركهما، سبحانه وعزّ وجل.
ثالثًا:
يجب التنبه إلى أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لا يوافق المعتزلة ولا الأشاعرة في هذه المسألة، وقد شرح ذلك ونصَّ عليه، كما قال بعد أن ذكر المذهبين والفَرْق بينهما:
"فكل واحدٍ من قول القدرية المعتزلة، والجهمية الجبرية: باطل، والصواب فيما جاء به الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها"، انتهى.
وكان قد قال عند ذكر قول أهل السنة: "القول الثالث: ما دل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه سلف الأمة وأئمتها، كالأئمة الأربعة وغيرهم: أنه سبحانه عليم حكيم رحيم، وأنه كتب على نفسه الرحمة كما أخبر في كتابه، وحرم على نفسه الظلم ..."، إلى آخر ما ذكر رحمه الله في "جامع المسائل" (1/ 152) وما بعدها.
وينظر أيضًا ما شرحه رحمه الله في "جامع المسائل" (6/ 241) من ضلالٍ وفسادٍ عريض في قول المعتزلة في هذه المسألة، وإن كان فيه حقٌّ من وجهٍ، وما بيّنه من الباطل الذي في جدال الأشاعرة لهم.
والله أعلم.